الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الْبُيُوعِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَقَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب البيوع " وقول الله تعالى والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله، ويطلق كل منهما على الآخر. وأجمع المسلمون على جواز البيع والحكمة تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله له ففي تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، والآية الأولى أصل في جواز البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص، فإن اللفظ لفظ عموم يتناول كل بيع فيقتضي إباحة الجميع، لكن قد منع الشارع بيوعا أخرى وحرمها فهو عام في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه. وقيل عام أريد به الخصوص، وقيل مجمل بينته السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم. والقول الرابع أن اللام في البيع للعهد وأنها نزلت بعد أن أباح الشرع بيوعا وحرم بيوعا فأريد بقوله: ومباحث الشافعي وغيره تدل على أن البيوع الفاسدة تسمى بيعا وإن كانت لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف والآية الأخرى تدل على إباحة التجارة في البيوع الحالة وأولها في البيوع المؤجلة. *3* وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَقَوْلِهِ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ الشرح: قوله: (باب جوار أبي بكر) الصديق تكسر الجيم وتضم، والمراد به الذمام والأمان. قوله: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده) أورد فيه حديث عائشة في شأن الهجرة مطولا. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ الشرح: قوله: (أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة) كذا في رواية شعيب، وقد تقدم في أواخر كتاب العلم من طريق مالك عن الزهري فقال " عن الأعرج " وهو صحيح عن الزهري عن كل منهم، وطريقه عن الأعرج مختصرة، وسيأتي في الاعتصام من طريق سفيان عن الزهري أتم منه وقد تقدمت مباحث الحديث هناك. والمقصود منه قول أبي هريرة " إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق " والصفق بفتح المهملة - ووقع في رواية القابسي بالسين وسكون الفاء بعدها قاف - والمراد به التبايع، وسميت البيعة صفقة لأنهم اعتادوا عند لزوم البيع ضرب كف أحدهما بكف الآخر إشارة إلى أن الأملاك تضاف إلى الأيدي، فكأن يد كل واحد استقرت على ما صار له. ووجه الدلالة منه وقوع ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واطلاعه عليه وتقريره له. قوله: (على ملء بطني) أي مقتنعا بالقوت أي فلم تكن له غيبة عنه. قوله: (نمرة) بفتح النون وكسر الميم أي كساء ملونا. وقال ثعلب: هي ثوب مخطط. وقال القزاز: دراعة تلبس فيها سواد وبياض. وقد تقدمت بقية مباحثه في أواخر كتاب العلم، لأنه ساق هذا الكلام الأخير هناك من وجه آخر عن أبي هريرة، ويأتي شيء من ذلك في كتاب الاعتصام. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعٍ قَالَ فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ قَالَ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَنْ قَالَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ الشرح: قوله: (عن جده) هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: (قال: قال عبد الرحمن بن عوف) في رواية أبي نعيم في " المستخرج " من طريق يحيى الحماني عن إبراهيم بن سعد بسنده عن عبد الرحمن بن عوف فهو من مسند عبد الرحمن، وقد أخرجه المصنف في " فضائل الأنصار " عن إسماعيل بن عبد الله وهو ابن أبي أويس عن إبراهيم بن سعد فقال " عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى الخ " فهو من هذه الطريق مرسل، وقد تبين لي بالطريق التي في هذا الباب أنه موصول. قوله: (آخى) تقدم في الصيام بيان وقت المؤاخاة في قصة سلمان وأبي الدرداء. قوله: (سعد بن الربيع) سأذكر ترجمته في " فضائل الأنصار". قوله: (نزلت لك عنها) أي طلقتها لأجلك، و " حلت " أي انقضت عدتها. وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في " الوليمة " من كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، قال ابن التين: كان هذا القول من سعد قبل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يكفوا المهاجرين العمل ويعطوهم نصف الثمرة. قوله: (قينقاع) بفتح القاف وسكون التحتانية وضم النون بعدها قاف: قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم، وذكر ابن التين أنه ضبط قينقاع بكسر النون في أكثر نسخ القابسي وهو صواب أيضا، وقد حكى فتحها أيضا، صرف قينقاع على إرادة الحي، وتركه على إرادة القبيلة. قوله: (تابع الغدو) أي داوم الذهاب إلى السوق للتجارة. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ فَمَكَثْنَا يَسِيرًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ مَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ الشرح: حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف المذكورة. قد أورده المصنف من طرق عن حميد وعن ثابت وعن عبد العزيز ابن صهيب كلهم عن أنس، وليس في شيء منها أن أنسا حمله عن عبد الرحمن إلا ما وقع في رواية لمسلم وللنسائي عن طريق عبد العزيز عن أنس فقال " عن عبد الرحمن بن عوف قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي " فذكر الحديث. ووقع عند الدار قطني من طريق مالك عن حميد عن أنس عن عبد الرحمن ابن عوف أيضا وذكر أن روح بن عبادة تفرد به عن مالك، والمحفوظ عنه كما رواه الجماعة، وسيأتي الكلام على حديث أنس وبيان فوائد طرقه واختلافها في " الوليمة " إن شاء الله تعالى. والغرض من إيراد هذين الحديثين اشتغال بعض الصحابة بالتجارة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره على ذلك، وفيه أن الكسب من التجارة ونحوها أولى من الكسب من الهبة ونحوها. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ فَنَزَلَتْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ الشرح: حديث ابن عباس في ذكر أسواق الجاهلية وتقريرها في الإسلام، قد تقدم الكلام عليه في أثناء كتاب الحج، وقوله فيه (وكان الإسلام) أي وجاء الإسلام، فكان هنا تامة، و " تأثموا " أي طرحوا الإثم، والمعنى تركوا التجارة في الحج حذرا من الإثم، وقراءة ابن عباس " في مواسم الحج " معدودة من الشاذ الذي صح إسناده وهو حجة وليس بقرآن. *3* الشرح: قوله: (باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات) ذكر فيه حديث النعمان بن بشير بلفظ الترجمة وزيادة، فأورده من طريقين عن الشعبي عنه، والثانية من طريقين عن أبي فروة عن الشعبي، فأورده أولا من طريق عبد الله بن عون عن الشعبي ثم من طريق ابن عيينة عن أبي فروة عن الشعبي صرح تارة بالتحديث لابن عيينة عن أبي فروة وثانيا بالتصريح بسماع أبي فروة من الشعبي وبسماع الشعبي من النعمان على المنبر وبسماع النعمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساقه المصنف من طريق سفيان وهو الثوري عن أبي فروة وساقه على لفظه كما صرح بذلك أبو نعيم في " المستخرج " وأما لفظ ابن عيينة فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والإسماعيلي من طريقه ولفظه " حلال بين وحرام بين ومشتبهات بين ذلك " فذكره وفي آخره " ولكل ملك حمى وحمى الله في الأرض معاصيه"، وأما لفظ ابن عون فأخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما بلفظ، " إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات - وأحيانا يقول مشتبهة - وسأضرب لكم في ذلك مثلا: إن الله حمى حمى، وإن حمى الله ما حرم، وأنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر". وأبو فروة المذكور هو الأكبر واسمه عروة بن الحارث الهمداني الكوفي، ولهم أبو فروة الأصغر الجهني الكوفي واسمه مسلم بن سالم ما له في البخاري سوى حديث واحد في أحاديث الأنبياء. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ الشرح: قوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم) في الرواية الأولى " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " وقد قدمت في الإيمان الرد على من نفى سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (الحلال بين والحرام بين الخ) فيه تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح لأن الشيء إما أن ينص على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالأول الحلال البين، والثاني الحرام البين. فمعنى قوله " الحلال بين " أي لا يحتاج إلى بيانه ويشترك في معرفته كل أحد، والثالث مشتبه لخفائه فلا يدرى هل هو حلال أو حرام، وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من تبعتها وإن كان حلالا فقد أجر على تركها بهذا القصد لأن الأصل في الأشياء مختلف فيه حظرا وإباحة، والأولان قد يردان جميعا فإن علم المتأخر منهما وإلا فهو من حيز القسم الثالث، وسأذكر ما فسرت به الشبهة بعد هذا الباب، والمراد أنها مشتبهة على بعض الناس بدليل قوله عليه السلام " لا يعلمها كثير من الناس " وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى هذا الحديث مستوفى في " باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه " من كتاب الإيمان، وقد توارد أكثر الأئمة المخرجين له على إيراده في كتاب البيوع لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرا، وله تعلق أيضا بالنكاح وبالصيد والذبائح والأطعمة والأشربة وغير ذلك مما لا يخفى والله المستعان. وفيه دليل على جواز الجرح والتعديل قاله البغوي في " شرح السنة " واستنبط منه بعضهم منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نص فيه لأنه من جملة ما لم يستبن، لكن قوله صلى الله عليه وسلم "لا يعلمها كثير من الناس " يشعر بأن منهم من يعلمها. وقوله في هذه الطريق " استبان " أي ظهر تحريمه. وقوله "أوشك " أي قرب لأن متعاطي الشبهات قد يصادف الحرام وإن لم يتعمده أو يقع فيه لاعتياده التساهل. *3* وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ الْوَرَعِ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ الشرح: قوله: (باب تفسير المشبهات) بتشديد الموحدة، وللنسفي بضمتين مخففا بغير ميم، ولابن عساكر بضم الميم وزيادة تاء لما تقدم في حديث النعمان بن بشير " إن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس " واقتضى ذلك أن بعض الناس يعلمها، أراد المصنف أن يعرف الطريق إلى معرفتها لتجتنب. فذكر أولا ما يضبطها، ثم أورد أحاديث يؤخذ منها مراتب ما يجب اجتنابه منها، ثم ثنى بباب فيه بيان ما يستحب منها، ثم ثلث بباب فيه بيان ما يكره. وشرح ذلك أن الشيء إما أن يكون أصله التحريم أو الإباحة أو يشك فيه، فالأول كالصيد فإنه يحرم أكله قبل ذكاته فإذا شك فيها لم يزل عن التحريم إلا بيقين، وإليه الإشارة بحديث عدي ابن حاتم. والثاني كالطهارة إذا حصلت لا ترفع إلا بيقين الحدث وإليه الإشارة بحديث عبد الله بن زيد في الباب الثالث، ومن أمثلته من له زوجة وعبد وشك هل طلق أو أعتق فلا عبرة بذلك وهما على ملكه. والثالث ما لا يتحقق أصله ويتردد بين الحظر والإباحة فالأولى تركه، وإليه الإشارة بحديث التمرة الساقطة في الباب الثاني. قوله: (وقال حسان بن أبي سنان) هو البصري أحد العباد في زمن التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصله أحمد في " الزهد " وأبو نعيم في " الحلية " عنه بلفظ " إذا شككت في شيء فاتركه " ولأبي نعيم من وجه آخر اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال يونس ما عالجت شيئا أشد علي من الورع. فقال حسان ما عالجت شيئا أهون علي منه، قال: كيف؟ قال حسان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت. قال بعض العلماء: تكلم حسان على قدر مقامه، والترك الذي أشار إليه أشد على كثير من الناس من تحمل كثير من المشاق الفعلية. وقد ورد قوله " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " مرفوعا أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحسن بن علي. وفي الباب عن أنس عند أحمد من حديث ابن عمر عند الطبراني في " الصغير " ومن حديث أبي هريرة وواثلة بن الأسقع ومن قول ابن عمر أيضا وابن مسعود وغيرهما. قوله: (يريبك) بفتح أوله ويجوز الضم يقال رابه يريبه بالفتح وأرابه يريبه بالضم ريبة وهي الشك والتردد، والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يشك فيه أصل عظيم في الورع. وقد روى الترمذي من حديث عطية السعدي مرفوعا " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس " وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الإيمان، قال الخطابي كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه. ثم هو على ثلاثة أقسام: واجب ومستحب ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزمه ارتكاب المحرم، والمندوب اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام، والمكروه اجتناب الرخص المشروعة على سبيل التنطع. الحديث الأول حديث عقبة بن الحارث في الرضاع، ووجه الدلالة منه قوله " كيف وقد قيل "؟ فإنه يشعر بأن أمره بفراق امرأته إنما كان لأجل قول المرأة إنها أرضعتهما، فاحتمل أن يكون صحيحا فيرتكب الحرام، فأمره بفراقها احتياطا على قول الأكثر، وقيل بل قبل شهادة المرأة وحدها على ذلك، وستأتي مباحثه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وستأتي مباحثه في كتاب الفرائض، ووجه الدلالة منه قوله صلى الله عليه وسلم "احتجبي منه يا سودة " مع حكمه بأنه أخوها لأبيها، لكن لما رأى الشبه البين فيه من غير زمعة أمر سودة بالاحتجاب منه احتياطا في قول الأكثر، واعترض الداودي فقال: ليس هذا الحديث من هذا الباب في شيء، وأجاب ابن التين بأن وجهه أن المشبهات ما أشبهت الحلال من وجه والحرام من وجه، وبيانه من هذه القصة أن إلحاقه بزمعة يقتضي أن لا تحتجب منه سودة والشبه بعتبة يقتضي أن تحتجب. وقال ابن القصار: إنما حجب سودة منه لأن للزوج أن يمنع زوجته من أخيها وغيره من أقاربها. وقال غيره: بل وجب ذلك لغلظ أمر الحجاب في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اتفق مثل ذلك لغيره لم يجب الاحتجاب كما وقع في حق الأعرابي الذي قال له " لعله نزعه عرق". الحديث الثالث حديث عدي بن حاتم في الصيد، ووجه الدلالة منه قوله " إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر " فبين له وجه المنع وهو ترك التسمية، وأبعد من استدل به على سد الذرائع. *3* الشرح: قوله: (باب ما يتنزه) بضم أوله أي يجتنب (من الشبهات) . وللكشميهني " يكره " بدل يتنزه. الحديث: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ فَقَالَ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَجِدُ تَمْرَةً سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر وطلحة هو ابن مطرف، والإسناد كله كوفيون إلا الصحابي فإنه سكن البصرة وقد دخل الكوفة مرارا، وصرح يحيى القطان بالتحديث بين منصور وسفيان كما سيأتي في اللقطة. قوله: (مسقوطة) كذا للأكثر. وفي رواية كريمة " مسقطة " بضم أوله وفتح القاف، قال ابن التيمي قوله " مسقوطة " كلمة غريبة لأن المشهور أن سقط لازم والعرب قد تذكر الفاعل بلفظ المفعول؛ واستشهد له الخطابي بقوله تعالى وقال ابن مالك في الشواهد: قوله مسقوطة بمعنى مسقطة ولا فعل له، ونظيره مرقوق بمعنى مرق أي مسترق عن ابن جني، قال: وكما جاء مفعول ولا فعل له جاء فعل ولا مفعول له كقراءة النخعي (عموا وصموا) بضم أولهما ولم يجيء مصموم اكتفاء بأصم. قلت. وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة شيخ البخاري فيه فقال " مطروحة " وأخرجه أبو نعيم من وجهين آخرين عن قبيصة شيخ البخاري فيه فقال " بتمرة " ولم يقل مسقوطة ولا مسقطة. قوله: (وقال همام الخ) وصله في اللقطة بتمامه ولفظه " إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها. قلت: ولم يستحضر الكرماني لفظ رواية همام فقال: تمام الحديث غير مذكور، وهو لولا أن تكون صدقة لأكلتها. قلت: والنكتة في ذكره هنا ما فيه من تعيين المحل الذي رأى فيه التمرة وهو فراشه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأكلها وذلك أبلغ في الورع. قال المهلب: لعله صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصدقة ثم يرجع إلى أهله فيعلق بثوبه من تمر الصدقة شيء فيقع في فراشه، وإلا فما الفرق بين هذا وبين أكله من اللحم الذي تصدق به على بريرة. قلت: ولم ينحصر وجود شيء من تمر الصدقة في غير بيته حتى يحتاج إلى هذا التأويل، بل يحتمل أن يكون ذلك التمر حمل إلى بعض من يستحق الصدقة ممن هو في بيته وتأخر تسليم ذلك له، أو حمل إلى بيته فقسمه فبقيت منه بقية. وقد روى أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال " تضور النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقيل له ما أسهرك؟ قال إني وجدت ثمرة ساقطة فأكلتها، ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي، فذلك أسهرني " وهو محمول على التعدد، وأنه لما اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وجد مثلها مما يدخل التردد تركه احتياطا، ويحتمل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع وفي حال تركه كان في خاصة نفسه. وقال المهلب: إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورعا وليس بواجب، لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم، وفيه تحريم قليل الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب أولى. *3* الشرح: قوله: (باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات) في رواية الكشميهني من المشبهات بميم وتثقيل، وفي نسخة بمثناة بدل التثقيل والكل بمعنى مشكلات، وهذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطع في الورع، قال الغزالي: الورع أقسام، ورع الصديقين وهو ترك ما لا يتناول بغير نية القوة على العبادة، وورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام، وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن فهو ورع الموسوسين، قال: ووراء ذلك ورع الشهود وهو ترك ما يسقط الشهادة، أي أعم من أن يكون ذلك المتروك حراما أم لا. انتهى. وغرض المصنف هنا بيان ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام وليست هناك علامة تدل على الثاني، وكمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد. ثم ذكر فيه حديثين: الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَالَ لَا حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَا وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ الشرح: الأول قوله: (عن الزهري) في رواية الحميدي " عن سفيان حدثنا الزهري". قوله: (عن عباد بن تميم عن عمه) هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. وفي رواية الحميدي المذكورة " أخبرني سعيد هو ابن المسيب وعباد بن تميم عن عبد الله بن زيد " وقد تقدم في الطهارة عن أبي نعيم عن سفيان، وسياقه يشعر بأن طريق سعيد مرسلة وطريق عباد موصولة، ولم يتعرض المزي لتمييز ذلك في " الأطراف". قوله: (وقال ابن أبي حفصة) هو محمد وكنيته أبو سلمة واسم والد أبي حفصة ميسرة وهو بصري نزل الجزيرة، وظن الكرماني أن محمدا هذا وسالما بن أبي حفصة وعمارة بن أبي حفصة إخوة فجزم بذلك هنا فوهم فيه وهما فاحشا، فإن والد سالم لا يعرف اسمه وهو كوفي ووالد عمارة اسمه نابت بالنون ثم موحدة ثم مثناة، وهو بصري أيضا، لكن ميسرة مولى نابت عربي، وسالم بن أبي حفصة من طبقة أعلى من طبقة الاثنين. قوله: (لا وضوء الخ) وصل أحمد أثر ابن أبي حفصة المذكور من طرق، ووقع لنا بعلو في " مسند أبي العباس السراج " ولفظه " عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه مرفوعا " باللفظ المعلق، ومشى بعض الشراح على ظاهر قول البخاري عن الزهري " لا وضوء الخ " فجزم بأن هذا المتن من كلام الزهري، وليس كما ظن لما ذكرته عن مسندي أحمد والسراج، وقد جرت عادة البخاري بهذا الاختصار كثيرا، والتقدير: عن الزهري بهذا السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لا وضوء. الحديث. وأقرب أمثلة ذلك ما مضى في الصوم في " باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس " فإنه أورد حديث الباب من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء قالت " أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس " قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: وبد من قضاء " قال البخاري " وقال معمر سمعت هشاما لا أدري أقضوا أم لا " فهذا أيضا فيه حذف تقديره سمعت هشاما عن معمر عن هشام بالسند والمتن. وقال في آخره " فقال إنسان لهشام: أقضوا أم لا؟ قال: لا أدري " وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر كذلك، وأوردته من " مسند عبد بن حميد " عاليا " عن عبد الرزاق عن معمر سمعت هشاما عن فاطمة عن أسماء " فذكرت الحديث، قال " فقال إنسان لهشام أقضوا أم لا؟ قال لا أدري". (تنبيه) اختصر ابن أبي حفصة هذا المتن اختصارا مجحفا، فإن لفظه يعم ما إذا وقع الشك داخل الصلاة وخارجها، ورواية غيره من أثبات أصحاب الزهري تقتضي تخصيص ذلك بمن كان داخل الصلاة، ووجهه أن خروج الريح من المصلي هو الذي يقع له غالبا بخلاف غيره من النواقض فإنه لا يهجم عليه إلا نادرا، وليس المراد حصر نقض الوضوء بوجود الريح. الحديث: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ الشرح: حديث عائشة في التسمية على الذبيحة، وقد استدل به على أن التسمية ليست شرطا لصحة الذبح، وقد استدل به على أن التسمية ليست شرطا في جواز الأكل من الذبيحة، وسيأتي تقريره والجواب عما أورد عليه وسائر مباحثه في كتاب الذبائح مستوفى إن شاء الله تعالى، وهو أصل في تحسين الظن بالمسلم وأن أموره محمولة على الكمال ولا سيما أهل ذلك العصر. *3* الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: وقد أورد في الباب حديث جابر في قصة انفضاض الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، ومضى الكلام عليه مبسوطا في كتاب الجمعة، ويأتي بعضه في تفسير سورة الجمعة إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب من لم يبال من حيث كسب المال) في هذه الترجمة إشارة إلى ذم ترك التحري في المكاسب. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ الشرح: قوله: (يأتي على الناس زمان) في رواية أحمد عن يزيد عن ابن أبي ذئب بسنده " ليأتين على الناس زمان " وللنسائي من وجه آخر " يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حل أو حرام " وهذا أورده النسائي من طريق محمد بن عبد الرحمن عن الشعبي عن أبي هريرة، ووهم المزي في " الأطراف " فظن أن محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ذئب فترجم به للنسائي مع طريق البخاري هذه عن ابن أبي ذئب، وليس كما ظن فإني لم أقف عليه في جميع النسخ التي وقفت عليها من النسائي إلا عن الشعبي لا عن سعيد، ومحمد بن عبد الرحمن المذكور عنه أظنه ابن أبي ليلى لا ابن أبي ذئب، لأني لا أعرف لابن أبي ذئب رواية عن الشعبي. وقال ابن التين: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تحذيرا من فتنة المال، وهو من بعض دلائل نبوته لإخباره بالأمور التي لم تكن في زمنه. ووجه الذم من جهة التسوية بين الأمرين، وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموما من حيث هو، والله أعلم. *3* وَقَوْلِهِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَقَالَ قَتَادَةُ كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الشرح: قوله: (باب التجارة في البز وغيره) لم يقع في رواية الأكثر قوله " وغيره " وثبتت عند الإسماعيلي وكريمة. واختلف في ضبط البز فالأكثر على أنه بالزاي، وليس في الحديث ما يدل عليه بخصوصه بل بطريق عموم المكاسب المباحة. وصوب ابن عساكر أنه بالراء وهو أليق بمؤاخاة الترجمة التي بعد هذه بباب وهو التجارة في البحر، وكذا ضبطها الدمياطي، وقرأت بخط القطب الحلبي ما يدل على أنها مضبوطة عند ابن بطال وغيره بضم الموحدة وبالراء، قال وليس في الباب ما يقتضي تعيينه من بين أنواع التجارة ا ه. وقد أخطأ من زعم أنه بالراء تصحيف إذ ليس في الآية ولا الحديث ولا الأثر اللاتي أوردها في الباب ما يرجح أحد اللفظين. قوله: (وقوله عز وجل رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) أي وتفسير ذلك، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى لا تلهيهم عن الصلاة المكتوبة، وتمسك به قوم في مدح ترك التجارات وليس بواضح. قوله: (وقال قتادة: كان القوم يتبايعون الخ) لم أقف عليه موصولا عنه، وقد وقع لي من كلام ابن عمر أخرجه عبد الرزاق عنه أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر " فيهم نزلت " فذكر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحوه، وفي " الحلية " عن سفيان الثوري: كانوا يتبايعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في الجماعة. ثم أورد المصنف حديث زيد بن أرقم والبراء بن عازب في الصرف، وسيأتي الكلام عليه في " باب بيع الورق بالذهب نسيئة " بعد نيف وستين بابا وموضع الترجمة منه قوله فيه " وكانا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خفي ذلك على القطب فقرأت بخطه: لم يذكر أحد من الشراح مناسبة الترجمة لهذا الحديث فينظر. (تنبيه) : أبو المنهال المذكور في هذا الإسناد غير أبي المنهال صاحب أبي برزة الأسلمي في حديث المواقيت، واسم هذا عبد الرحمن بن مطعم واسم صاحب أبي برزة سيار بن سلامة. وأخرج البخاري الطريق الثانية بنزول رجل لأجل زيادة عامر بن مصعب مع عمرو بن دينار في رواية ابن جريج عنهما عن أبي المنهال المذكور، وعامر بن مصعب ليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا الْمِنْهَالِ يَقُولُ سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَا كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلَا يَصْلُحُ الشرح: قوله: (نسيئا) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها همزة، وللكشميهني نساء بفتح النون والمهملة ومدة. *3* وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الشرح: قوله: (باب الخروج في التجارة، وقول الله عز وجل: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) قال ابن بطال. هو إباحة بعد حظر كقوله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ قِيلَ قَدْ رَجَعَ فَدَعَاهُ فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَأْتِينِي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ عُمَرُ أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ الشرح: قوله: (أن أبا موسى استأذن على عمر فلم يؤذن له) زاد بشر بن سعيد عن أبي سعيد كما سيأتي في الاستئذان " أنه استأذن ثلاثا". قوله: (فقال كنا نؤمر بذلك) في الرواية المذكورة أنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". قوله: (فذهب بأبي سعيد) في الرواية المذكورة " فأخبرت عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك " وفيه الدلالة على أن قول الصحابي " كنا نؤمر بكذا " محمول على الرفع، ويقوى ذلك إذا ساقه مساق الاستدلال، وفيه أن الصحابي الكبير القدر الشديد اللزوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى عليه بعض أمره ويسمعه من هو دونه، وادعى بعضهم أنه يستفاد منه أن عمر كان لا يقبل الخبر من شخص واحد، وليس كذلك لأن في بعض طرقه أن عمر قال: إني أحببت أن أتثبت. وستأتي فوائده مستوفاة في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. وقد قبل عمر خبر الضحاك بن سفيان وحده في الدية وغير ذلك. قوله: (فقال عمر أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة) كذا في الأصل، وأطلق عمر على الاشتغال بالتجارة لهوا لأنها ألهته عن طول ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع غيره منه ما لم يسمعه، ولم يقصد عمر ترك أصل الملازمة وهي أمر نسبي، وكان احتياج عمر إلى الخروج للسوق من أجل الكسب لعياله والتعفف عن الناس، وأما أبو هريرة فكان وحده فلذلك أكثر ملازمته، وملازمة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى كما سيأتي في ترجمته في المناقب. واللهو مطلقا ما يلهي سواء كان حراما أو حلالا، وفي الشرع ما يحرم فقط. *3* وَقَالَ مَطَرٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَالْفُلْكُ السُّفُنُ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَمْخَرُ السُّفُنُ الرِّيحَ وَلَا تَمْخَرُ الرِّيحَ مِنْ السُّفُنِ إِلَّا الْفُلْكُ الْعِظَامُ الشرح: قوله: (باب التجارة في البحر) أي إباحة ركوب البحر للتجارة، وفي بعض النسخ " وغيره " فإن ثبت قوى قول من قرأ " البر " فيما سبق بباب بضم أوله أو بالزاي. قوله: (وقال مطر الخ) هو مطر الوراق البصري مشهور في التابعين، ووقع في رواية الحموي وحده " وقال مطرف " وهو تصحيف، وبأنه الوراق وصفه المزي والقطب وآخرون. وقال الكرماني: الظاهر أنه ابن الفضل المروزي شيخ البخاري، وكأن ظهور ذلك له من حيث أن الذين أفردوا رجال البخاري كالكلاباذي لم يذكروا فيهم الوراق المذكور لأنهم لم يستوعبوا من علق لهم، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن شوذب عن مطر الوراق أنه كان لا يرى بركوب البحر بأسا ويقول: ما ذكره الله تعالى في القرآن إلا بحق، ووجه حمل مطر ذلك على الإباحة أنها سيقت في مقام الامتنان، وتضمن ذلك الرد على من منع ركوب البحر، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: (الفلك السفن الواحد والجمع سواء) هو قول أكثر أهل اللغة، ويدل عليه قوله تعالى وقال صاحب " المحكم " السفينة فعيلة بمعنى فاعلة سميت سفينة لأنها تسفن وجه الماء أي تفسره، والجمع سفن وسفائن وسفين. قوله: (وقال مجاهد الخ) وصله الفريابي في تفسيره، وكذلك عبد بن حميد من وجه آخر، قال عياض: ضبطه الأكثر بنصب السفن وعكسه الأصيلي، والصواب الأول عند بعضهم بناء على أن الريح الفاعل وهي التي تصرف السفينة في الإقبال والإدبار، وضبط الأصيلي صواب وهو ظاهر القرآن إذ جعل الفعل للسفينة فقال (مواخر فيه) وقوله " تمخر " بفتح المعجمة أي تشق يقال مخرت السفينة إذا شقت الماء بصوت، وقيل المخر الصوت نفسه، وكأن مجاهدا أراد أن شق السفينة للبحر بصوت إنما هو بواسطة الريح، ومعنى قوله " ولا تمخر الخ " أن الصوت لا يحصل إلا من كبار السفن، أو لا يحصل من الصغار غالبا. الحديث: وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهَذَا الشرح: قوله: (وقال الليث الخ) هو طرف من حديث ساقه بتمامه في كتاب الكفالة كما سيأتي، وسنذكر الكلام عليه ثم، ووجه تعلقه بالترجمة ظاهر من جهة أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه، ولا سيما إذا ذكره صلى الله عليه وسلم مقررا له أو في سياق الثناء على فاعله أو ما أشبه ذلك، ويحتمل أن يكون مراد المصنف بإيراد هذا أن ركوب البحر لم يزل متعارفا مألوفا من قديم الزمان، فيحمل على أصل الإباحة حتى يرد دليل على المنع. قوله في آخره (حدثني عبد الله بن صالح حدثنا الليث به) فيه التصريح بوصل المعلق المذكور، ولم يقـع ذلك في أكثر الروايات في الصحيح، ولا ذكره أبو ذر إلا في هذا الموضع، وكذا وقع في رواية أبي الوقت. *3* وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَقَالَ قَتَادَةُ كَانَ الْقَوْمُ يَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الشرح: قوله: (باب فمن ثم وقع الاختلاف في التقديم والتأخير، ويزاد هنا أن بعضهم احتاط فكتب الملحق في الموضعين فنشأ عنه التكرار، وقد تكلف بعض الشراح في توجيهه بأن قال: ذكر الآية هنا لمنطوقها وهو الذم، وذكرها هناك لمفهومها وهو تخصيص وقتها بحاله غير المتلبسين بالصلاة وسماع الخطبة، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى. *3* الشرح: قوله: (باب قوله: أنفقوا من طيبات ما كسبتم) أي تفسيره. وحكى ابن بطال أنه وقع في الأصل " كلوا " بدل أنفقوا وقال إنه غلط ا ه. وكذا رأيته في رواية النسفي، وقد ساق الآية في كتاب الزكاة على الصواب، وقد تقدم النقل عن مجاهد أنه قال في تفسيرها: إن المراد بها التجارة. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا الشرح: ذكر البخاري حديث عائشة مرفوعا " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها " الحديث وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الزكاة. الحديث: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ الشرح: أورد حديث أبي هريرة في ذلك بلفظ " إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فلها نصف أجره " وفيه رد على من عينه فيما أذن لها في ذلك، والأولى أن يحمل على ما إذا أنفقت من الذي يخصها به إذا تصدقت به بغير استئذانه فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه، وكونه بغير أمره يحتمل أن يكون أذن لها بطريق الإجمال لكن المنفي ما كان بطريق التفصيل ولا بد من الحمل على أحد هذين المعنيين وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالا ولا تفصيلا فهي مأزورة بذلك لا مأجورة، وقد ورد فيه حديث عن ابن عمر عند الطيالسي وغيره. وأما قوله في حديث أبي هريرة " فلها نصف أجره " فهو محمول على ما إذا لم يكن هناك من يعينها على تنفيذ الصدقة، بخلاف حديث عائشة ففيه أن للخادم مثل ذلك، أو المعنى بالنصف في حديث أبي هريرة أن أجره وأجرها إذا جمعا كان لها النصف من ذلك فللكل منهما أجر كامل وهما اثنان فكأنهما نصفان. *3* الشرح: قوله: (باب من أحب البسط) أي التوسع (في الرزق) وجواب " من " محذوف تقديره ما في الحديث وهو " فليصل رحمه". ويستفاد منه جواز هذه المحبة خلافا لمن كرهها مطلقا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن أبي يعقوب) اسم أبيه إسحاق بن منصور، وقيل إن منصورا اسم أبيه، وقيل إن أبا يعقوب جده الكرماني بكسر الكاف، وذكر الكرماني الشارح أن النووي ضبطها بفتح الكاف وتعقبه، وسلف النووي في ذلك أبو سعيد بن السمعاني وهو أعلم الناس بذلك، فلعل الصواب فيها في الأصل الفتح، ثم كثر استعمالها بالكسر تغييرا من العامة، وقد نزل محمد المذكور البصرة، ووثقه ابن معين وغيره، ولم يعرف أبو حاتم الرازي حاله، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في تفسير المائدة وآخر في أوائل الأحكام، والثلاثة إسنادها واحد إلى الزهري، وشيخه حسان هو ابن إبراهيم الكرماني ويونس هو ابن يزيد. قوله: (قال محمد هو الزهري) كذا في الأصل. وفي رواية أبي نعيم من وجه آخر عن حسان عن يونس بن يزيد عن الزهري. قوله: (عن أنس) يأتي في الأدب من وجه آخر عن الزهري أخبرني أنس. قوله: (وينسأ) بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر له، والأثر هنا بقية العمر قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي الطرف حتى ينتهي الأثر وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، وفي العمر حصول القوة في الجسد، لأن صلة أقاربه صدقة والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو، لأن رزق الإنسان يكتب وهو في بطن أمه فلذلك احتيج إلى هذا التأويل، أو المعنى أنه يكتب مقيدا بشرط كأن يقال إن وصل رحمه فله كذا وإلا فكذا، أو المعنى بقاء ذكره الجميل بعد الموت. وأغرب الحكيم الترمذي فقال: المراد بذلك قلة البقاء في البرزخ. وقال ابن قتيبة: يحتمل أن يكتب أجل العبد مائة سنة وتزكيته عشرين فإن وصل رحمه زاد التزكية. وقال غيره: المكتوب عند الملك الموكل به غير المعلوم عند الله عز وجل، فالأول يدخل فيه التغيير. وتوجيهه أن المعاملات على الظواهر والمعلوم الباطن خفي لا يعلق عليه الحكم، فذلك الظاهر الذي اطلع عليه الملك هو الذي يدخله الزيادة والنقص والمحو والإثبات، والحكمة فيه إبلاغ ذلك إلى المكلف ليعلم فضل البر وشؤم القطيعة، وسيأتي ذكر هذه المسألة مبسوطة في كتاب القدر، ويأتي الكلام على إيثار الغنى على الفقر في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة) بكسر المهملة والمد أي بالأجل، قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قلت: لعل المصنف تخيل أن أحدا يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل، وأورد المصنف فيه حديثي عائشة وأنس في أنه صلى الله عليه وسلم اشترى شعيرا إلى أجل ورهن عليه درعه، وسيأتي الكلام عليهما مستوفى في أول الرهن إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ الشرح: قوله في طريق عائشة (ذكرنا عند إبراهيم) هو النخعي، و قوله: (الرهن في السلم) أي السلف ولم يرد به السلم العرفي. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ أَبُو الْيَسَعِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ حَبٍّ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ الشرح: (حدثنا مسلم) هو ابن إبراهيم. وقوله في الطريق الثانية (أسباط) هو بفتح الهمزة وسكون المهملة بعدها موحدة. وقوله: (أبو اليسع) بفتح التحتانية والمهملة وهو بصري، وكذا بقية رجال الإسناد، وليس لأسباط في البخاري سوى هذا الموضع، وقد قيل إن اسم أبيه عبد الواحد، وقد ساقه المصنف هنا على لفظ أبي اليسع، وساقه في الرهن على لفظ مسلم بن إبراهيم، والنكتة في جمعهما هنا مع أن طريق مسلم أعلى مراعاة للغالب من عادته أن لا يذكر الحديث الواحد في موضعين بإسناد واحد، ولأن أبا اليسع المذكور فيه مقال فاحتاج أن يقرنه بمن يعضده. وقوله فيه (ولقد سمعته يقول) هو كلام أنس، والضمير في سمعته للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قال ذلك لما رهن الدرع عند اليهودي مظهرا للسبب في شرائه إلى أجل، وذهل من زعم أنه كلام قتادة وجعل الضمير في سمعته لأنس، لأنه إخراج للسياق عن ظاهره بغير دليل، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب كسب الرجل وعمله بيده) عطف العمل باليد على الكسب من عطف الخاص على العام، لأن الكسب أعم من أن يكون عملا باليد أو بغيرها. وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب. قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل. وتعقبه النووي بحديث المقدام الذي في هذا الباب وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يوكل منه بغير عوض. قلت: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى وخذلان كلمة أعدائه والنفع الأخروي، قال: ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل لما ذكرنا. قلت: وهو مبني على ما بحث فيه من النفع المتعدي، ولم ينحصر النفع المتعدي في الزراعة بل كل ما يعمل باليد فنفعه متعد لما فيه من تهيئة أسباب ما يحتاج الناس إليه. والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى. قال ابن المنذر: إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل، كما جاء مصرحا به في حديث أبي هريرة. قلت: ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب بل من الله تعالى بهذه الواسطة، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير، ثم أورد المصنف في الباب أحاديث أولها في التجارة، والثاني في الزراعة، والثالث وما بعده في الصنعة، الحديث الأول. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ الشرح: قوله: (حدثني إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس. قوله: (لقد علم قومي) أي قريش والمسلمون. قوله: (حرفتي) بكسر المهملة وسكون الراء بعدها فاء أي جهة اكتسابي، والحرفة جهة الاكتساب والتصرف في المعاش، وأشار بذلك إلى أنه كان كسوبا لمؤنته ومؤنة عياله بالتجارة من غير عجز، تمهيدا على سبيل الاعتذار عما يأخذه من مال المسلمين إذا احتاج إليه. قوله: (وشغلت) جملة حالية أي أن القيام بأمور الخلافة شغله عن الاحتراف، وقد روى ابن سعد وابن المنذر بإسناد صحيح عن مسروق عن عائشة قالت " لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ماذا في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي. قالت: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر فقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده " وأخرج ابن سعد من طريق القاسم بن محمد عن عائشة نحوه وزاد " إن الخادم كان صيقلا يعمل سيوف المسلمين ويخدم آل أبي بكر " ومن طريق ثابت عن أنس نحوه وفيه " قد كنت حريصا على أن أوفر مال المسلمين، وقد كنت أصبت من اللحم واللبن " وفيه " وما كان عنده دينار ولا درهم، ما كان إلا خادم ولقحة ومحلب". قوله: (آل أبي بكر) أي هو نفسه ومن تلزمه نفقته. وقيل أراد نفسه بدليل قوله " أحترف " حكاه الطيبي. قال: ويدل عليه نسق الكلام لأنه أسند الاحتراف إلى ضمير المتكلم عاطفا له على " فسيأكل " فلو كان المراد الأهل لتنافر. انتهى. وجزم البيضاوي بأن قوله " آل أبي بكر " عدول عن المتكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات، قال وقيل: أراد نفسه، والأول مقحم لقوله " وأحترف " وليس بشيء، بل المعنى أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه والآن أكتسب للمسلمين. قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصا كسوبا لمؤنة الأهل بالتجارة فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال، وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها. قال ابن التين: وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة، وسبقه إلى ذلك الخطابي. قلت: لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض له باتفاق من الصحابة، فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال " لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة". قوله: (وأحترف) في رواية الكشميهني " ويحترف " قال ابن الأثير: أراد باحترافه للمسلمين نظره في أمورهم وتمييز مكاسبهم وأرزاقهم، وكذا قال البيضاوي: المعنى أكتسب للمسلمين في أموالهم بالسعي في مصالحهم ونظم أحوالهم. وقال غيره: يقال احترف الرجل إذا جازى على خير أو شر. وقال المهلب: قوله أحترف لهم أي أتجر لهم في مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما آكل أو أكثر وليس بواجب على الإمام أن يتجر في مال المسلمين بقدر مؤنته إلا أن يطوع بذلك كما تطوع أبو بكر. قلت: والتوجيه الذي ذكره ابن الأثير أوجه، لأن أبا بكر بين السبب في ترك الاحتراف وهو الاشتغال بالإمارة، فمتى يتفرغ للاحتراف لغيره؟ إذ لو كان يمكنه الاحتراف لاحترف لنفسه كما كان، إلا أن يحمل على أنه كان يعطى المال لمن يتجر فيه ويجعل ربحه للمسلمين، وقد روى الإسماعيلي في حديث الباب من طريق معمر عن الزهري " فلما استخلف عمر أكل هو وأهله من المال - أي مال المسلمين - واحترف في مال نفسه". (تنبيه) : حديث أبي بكر هذا وإن كان ظاهره الوقف لكنه بما اقتضاه من أنه قبل أن يستخلف كان يحترف لتحصيل مؤنة أهله يصير مرفوعا لأنه يصير كقول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن ماجة وغيره من حديث أم سلمة " أن أبا بكر خرج تاجرا إلى بصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " وتقدم في حديث أبي هريرة في أول البيوع " إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق " ويأتي حديث عائشة " أن الصحابة كانوا عمال أنفسهم " وهذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديثها عن أبي بكر. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اغْتَسَلْتُمْ رَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ الشرح: قوله: (حدثنا محمد حدثنا عبد الله بن يزيد) كذا ثبت في جميع الروايات إلا رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري عن البخاري " حدثنا عبد الله بن يزيد " فمحمد على هذا هو المصنف وعبد الله بن يزيد هو المقري، وقد أكثر عنه البخاري، وربما روي عنه بواسطة، وسعيد هو ابن أبي أيوب، وأبو الأسود هو النوفلي المعروف بيتيم عروة، وجزم الحاكم بأن محمدا هنا هو الذهلي. قوله: (رواه همام) يعني ابن يحيى (عن هشام) يعني ابن عروة. وهذا التعليق وصله أبو نعيم في " المستخرج " من طريق هدبة عنه بلفظ " كان القوم خدام أنفسهم، وكانوا يروحون إلى الجمعة فأمروا أن يغتسلوا " وبهذا اللفظ رواه قريش بن أنس عن هشام عند ابن خزيمة والبزار، وقد تقدم هذا الحديث من وجه عن عروة ومن وجه آخر عن عمرة، وتقدم شرحه مستوفى، والغرض منه هنا قوله " كانوا عمال أنفسهم " وقوله " يكون لهم أرواح " جمع ريح لأن أصل ريح روح بفتح الراء وسكون الواو ويقال في جمعه أيضا أرياح بقلة. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ الشرح: قوله: (عن ثور) هو ابن يزيد الشامي لا ابن زيد المدني. قوله: (عن المقدام) هو ابن معدي كرب الكندي من صغار الصحابة، مات سنة بضع وثمانين بحمص، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الأطعمة. قوله: (ما أكل أحد) زاد الإسماعيلي " من بني آدم". قوله: (طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده) في رواية الإسماعيلي " خير " بالرفع وهو جائز. وفي رواية له من " كد يديه " والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس. ولابن ماجة من طريق عمر بن سعد عن خالد بن معدان عنه " ما كسب الرجل أطيب من عمل يديه " ولابن المنذر من هذا الوجه " ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه " وفي فوائد هشام بن عمار عن بقية حدثني عمر بن سعد بهذا الإسناد مثل حديث الباب وزاد " من بات كالا من عمله بات مغفورا له " وللنسائي من حديث عائشة " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه " وفي الباب من حديث سعيد بن عمير عن عمه عند الحاكم، ومن حديث رافع بن خديج عند أحمد، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود. قوله: (وأن داود الخ) في رواية الإسماعيلي بحذف الواو، وفي روايته " من كسب يده". الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ الشرح: قوله: (لا يأكل إلا من عمل يده) وهو صريح في الحصر بخلاف الذي قبله، وحديث أبي هريرة هذا طرف من حديث سيأتي في ترجمة داود من أحاديث الأنبياء؛ ووقع في المستدرك عن ابن عباس بسند واه " كان داود زرادا، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا " وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد، وهذا بعد تقرير أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا سيما إذا ورد في شرعنا مدحه وتحسينه مع عموم قوله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ الشرح: قوله: (لأن يحتطب أحدكم) تقدم الكلام عليه في " باب الاستعفاف عن المسألة " وأخرجه هناك من طريق الأعرج عن أبي هريرة، وبعد أبواب من طريق أبي صالح عنه، وهنا من طريق أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف - وهو مولى ابن أزهر - وقد تقدم الكلام على ترجمته في أواخر الصيام. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلَهُ الشرح: وحديث الزبير بن العوام في ذلك أورده هنا مختصرا وساقه في " باب الاستعفاف من الزكاة " بتمامه وتقدم الكلام عليه هناك، وقوله "أحبله " بفتح أوله وضم الموحدة جمع حبل مثل فلس وأفلس.
|